خطبة الجمعة اليوم لوزارة الأوقاف.. «ونغرس فيأكل من بعدنا»

خطبة الجمعة .. تزايد البحث من قبل الكثير من الأئمة والخطباء عن موضوع خطبة الجمعة اليوم الموافق 2 مايو 2025، الموافق 4 ذو القعدة 1446هـ، والتي أتت بعنوان: «ونغرس فيأكل من بعدنا».
خطبة الجمعة اليوم
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، القائلِ في كتابِهِ الكريمِ: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ}، وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وأشهدُ أنَّ سيدَنَا ونبيَّنَا مُحمدًا عبدُهُ ورسولُهُ، اللهُمَّ صلِّ وسلمْ وباركْ عليهِ، وعلى آلِهِ وصحبِهِ، ومَن تبعَهُمْ بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
وبعدُ:
أولا: حثَّ الإسلامُ أتباعَهُ على إتقانِ العملِ وإحسانِهِ
لقد حثَّ الإسلامُ أتباعَهُ على إتقانِ العملِ وإحسانِهِ، رجاءَ محبةِ اللهِ تعالى ورحمتِهِ، فعن عَائِشَةَ (رضي الله عنها) أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ: «إِنَّ اللهَ (عز وجل) يُحِبُّ إِذَا عَمِلَ أَحَدُكُمْ عَمَلًا أَنْ يُتْقِنَهُ»، وفي رواية: (إنَّ اللهَ تعالى يُحبُّ مِن العاملِ إذا عملَ العملَ أنْ يُحسنَ) [رواه البيهقي في الشعب {
إنَّ الإتقانَ في العملِ والاهتمامَ بهِ والمحافظةَ عليهِ والتميز َفيهِ مِن أهمِّ القيمِ والمبادئِ التي دعا إليها الإسلامُ.
فهو أساسُ نهضةِ الأمةِ، به يعلو شأنُهَا، وتستقيمُ حياتُهَا، ويقيمُ بناءَ الأمةِ بناءً قويًّا شامخًا، والإتقانُ هو الذي تقومُ عليه الحضاراتُ، ويُعمّرُ بهِ الكونُ، وكذلك هو أهدافٌ مِن الدينِ يسمُو بهِ المسلمُ ويرقَى بهِ إلى مرضاةِ اللهِ تعالى والإخلاصِ لهُ، لأنَّ اللهَ لا يقبلُ مِن العملِ إلّا ما كان خالصاً لوجههِ، وإخلاصُ العملِ لا يكونُ إلّا بإتقانِهِ.
ولقد علمنَا اللهُ تباركَ وتعالى الإتقانَ مِن خلالِ خلقِهِ، فلقد خلقَ كلَّ شيءٍ بإتقانٍ معجزٍ، يقولُ تعالى: {…. صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ ۚ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 88]، وأوجبَ على الإنسانِ السعيَ نحوَ الإحسانِ والإجادةِ، ونهاهُ عن الإفسادِ، فقال: {… وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [البقرة: 195]، وقال: {وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [القصص: 77.
ولقد دعانَا القرآنُ الكريمُ في كثيرٍ مِن آياتِهِ إلى إتقانِ العملِ وتجويدِهِ
والإخلاصِ في أدائِهِ طلبًا لمرضاةِ اللهِ تعالى، ونصحًا لعبادِهِ، وخدمةً وتعاونًا بينَ أفرادِ المجتمعِ، ووعدَ على ذلكَ الثوابَ العظيمَ والثناءَ الحسنَ في الدنيا والآخرةِ، وبيَّنَ أنَّ الإنسانَ وهو يزاولُ عملًا ما يكونُ تحتَ رقابةِ اللهِ العليمِ بمكنوناتِ الصدورِ وخفايا القلوبِ، وأنّهُ لا يغيبُ عنهُ مثاقيلُ الذرِّ مِن أعمالِ العبادِ، فهو سبحانَهُ يسطرُهَا لهُم ويسجلُهَا عليهِم ويجازيهِم بهَا يومَ يلقونَهُ، قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ۚ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِن ذَٰلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ} [يونس: 61].
فاللهُ تعالَى مطلعٌ على جميعِ أحوالِكُم في حركاتِكُم وسكناتِكُم، فراقبُوا اللهَ تعالى في أعمالِكُم وأدُّوهَا على وجهِ النصيحةِ والاجتهادِ فيهَا، فعلى كلِّ عاملٍ أنْ يتقنَ عملَهُ ويبذلَ فيهِ الجهدَ لإحسانِهِ وإحكامِهِ، تعبدًا وتقرباً إلى اللهِ تعالَى قبلَ أيِّ شيءٍ آخر، فاللهُ عزّ وجلّ هو الذي يراهُ ويراقبهُ في عملهِ، يراهُ في مصنعهِ وفي مزرعتهِ وفي أيِّ مجالٍ مِن مجالاتِ سعيهِ، يقولُ تعالى: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ وَسَتُرَدُّونَ إِلَىٰ عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [التوبة: 105{.
يقولُ الشوكانِي رحمَهُ اللهُ:
“قولُهُ: {وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ۖ} فالأمرُ فيهِ تخويفٌ وتهديدٌ: أي إنَّ عملَكُم لا يخفَى على اللهِ، ولا على رسولِهِ ولا على المؤمنين، فسارعوا إلى أعمالِ الخيرِ، وأخلصُوا أعمالَكُم للهِ عزّ وجلّ، وفيه أيضاً: ترغيبٌ وتنشيطٌ، فإنَّ مَن علمَ أنَّ عملَهُ لا يخفَى سواءٌ أكان خيرًا أم شراً رغبَ إلى أعمالِ الخيرِ، وتجنبَ أعمالَ الشرِّ، وما أحسنَ قولَ زهيرٍ:
وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ وَإِن خالَها تَخفَى عَلى الناسِ تُعلَمِ
وَمَن لا يَزَل يَستَحمِلُ الناسَ نَفسَهُ وَلا يُغنِها يَوماً مِنَ الدَهرِ يُسأَمِ
والمرادُ بالرؤيةِ هنَا: العلمُ بمَا يصدرُ منهُم مِن الأعمالِ، ثم جاءَ سبحانَهُ بوعيدٍ شديدٍ فقال: {وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} أي: وستردّونَ بعدَ الموتِ إلى اللهِ سبحانَهُ، الذي يعلمُ ما تسرونَهُ وما تعلنونَهُ، وما تخفونَهُ وما تبدونَهُ” [فتح القدير]. وفي السنةِ النبويةِ دعوةٌ إلى محاولةِ الوصولِ إلى الأفضلِ والأحسنِ والأتقنِ، ففي الصلاةِ يؤمُّ القومَ أقرؤهُم لكتابِ اللهِ، وفي قراءةِ القرآنِ يقرؤهُ الماهرُ بهِ الذي بشّرَهُ الرسولُ ﷺ بأنّهُ مع السفرةِ الكرامِ البررةِ، وفي قصةِ مشروعيةِ الأذانِ حينمَا رأى عبدُ اللهِ بنُ زيدٍ الرؤيَا قال له الرسولُ ﷺ: «إنَّ هذِه لرؤيا حقٍّ فقم معَ بلالٍ فإنَّهُ أندى وأمدُّ صوتًا منكَ فألقِ عليهِ» (سنن البيهقي)، ويأمرُ مَن يلِي أمرَ الميتِ بقولِهِ: «إذا كفَّنَ أحدُكُم أخاهُ، فليُحسِّن كفنَهُ» (رواه مسلم).
وهكذا بيّنَت السنةُ النبويةُ أنَّ كلَّ عملٍ يعملُهُ الإنسانُ لابدَّ وأنْ يكونَ حسنًا متقنًا، وأنْ يُراعي اللهَ تعالى فيهِ، لأنَّ اللهَ مطلعٌ على قلوبِ العبادِ ويُحصِي عليهِم أعمالَهُم دقتْ أو جلتْ. فالإحسانُ والإتقانُ والحرصُ على بلوغِ الكمالِ في العملِ قربةٌ وطاعةٌ للهِ عزَّ وجلَّ، وإنْ لم ينتفعْ الإنسانُ بذلكَ في الدنيا، لأنّهُ فعلَ شيئًا يحبُّهُ اللهُ تعالى،
فعَنْ عَاصِمِ بْنِ كُلَيْبِ الْجَرْمِيِّ قَالَ:
حَدَّثَنِي أَبِي كُلَيْب أَنَّهُ شَهِدَ مَعَ أَبِيهِ جَنَازَةً شَهِدَهَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَأَنَا غُلَامٌ أَعْقِلُ وَأَفْهَمْ، فَقَالَ رسول الله ﷺ: «أَمَا إِنَّ هَذَا لَا يَنْفَعُ الْمَيِّتَ وَلَا يَضُرُّهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ مِنَ الْعَامِلِ إِذَا عَمِلَ أَنْ يُحْسِنَ» (شعب الإيمان)، فها هو رسولُ اللهِ ﷺ يأمرُ بالإتقانِ في موضوعٍ لا ينفعُ ولا يضرُّ، لكنّهُ يريدُ أنْ يُربيَ المسلمينَ على الإجادةِ والإتقانِ، يريدُ تربيةَ الشخصيةِ المسلمةِ على تلمسِ طريقِ الكمالِ.
ثانياً: فضلُ إتقانِ العملِ، والتحذيرُ مِن الإهمالِ.
والذي يتقنُ عملَهُ ويحسنَهُ لن يضيعَ سعيُهُ وجهدُهُ، بل سينالَ جزاءً حسنًا في الدنيا والآخرةِ، يقولُ اللهُ تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا} [الكهف: ٣٠]، ويقولُ تعالى: {فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ ۖ بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ ۖ } [آل عمران: ۱۹٥]، فالذي يسعَى نحوَ الإجادةِ والإتقانِ في كلِّ عملٍ يعملهُ صالحٌ فاضلٌ، نورُ الهدَى ساطعٌ في قلبِهِ، حريصٌ على حقوقِ اللهِ وحقوقِ الناسِ معتصمٌ بالفضيلةِ يضعُ كلَّ شيءٍ في مكانِهِ الجديرِ بهِ واللائقِ لهُ، فالمسلمُ مطالبٌ بالإتقانِ في كلِّ أعمالِهِ التعبديةِ والسلوكيةِ وما يتصلُ منهَا بالمعايشِ لأنَّ كلَّ عملٍ يقومُ بهِ المسلمُ يُعدُّ عبادةً ما دامَ مقرونًا بنيّةِ التعبدِ للهِ تعالى يُجازَى عليهِ، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: ١٦٢].
أمّا الذي لا يتقنُ عملَهُ ولا يراقبُ اللهَ تعالى فيه فإنّهُ آثمٌ، آثمٌ بقدرِ ما يتسببُ فيهِ مِن ضياعِ الأموالِ وإهدارِ الطاقاتِ، فهذا الموظفُ الذي يقصرُ ويهملُ ولا يتقنُ عملَهُ ويرضَى لنفسِهِ أنْ يتقاضَى أجرًا حرامًا يخاصمُهُ فيهِ الشعبُ كلُّهُ يومَ القيامةِ، فهذا عمرُ (رضي اللهُ عنه) يقولُ لمعيقيـبٍ عاملِهِ على بيتِ المالِ الذي أعطَى ولدَهُ درهمًا وجدَهُ وهو يكنسُ بيتَ المالِ: “ويحكَ يا معيقيـب! أوجدتَ على في نفسِكَ شيئًا؟ قال قلـتُ: مـا ذاكَ يـا أميرَ المؤمنين؟ قال: أردتَ أنْ تخاصمنِي أمةُ مُحمدٍ ﷺ في هذا الدرهمِ؟!” [الورع لابن أبي الدنيا].
فهذا الذي يعملُ في رصفِ الطرقِ
فلا يراعِي اللهَ في عملِهِ فيتسببُ في فسادِ الطرقِ آثمٌ بقدرِ ما يتسببُ فيهِ مِن حوادثَ وقتلٍ، وهذا الفلاحُ الذي لا همَّ لهُ إلّا جمعَ المالِ وفي سبيلهِ يُهلَكُ أجسامُ الناسِ بالمبيداتِ السامةِ غشاشٌ قاتلٌ يأثمُ بقدرِ كلِّ كبدٍ أفسدَهُ وبقدرِ كلِّ كليةٍ أفشلَهَا، وهذا الصانعُ الذي لا يتقنُ صنعتَهُ فينتجُ سلعةً مغشوشةً آثمٌ غشاشٌ يدخلُ فيمَن تبرأَ منهُم النبيُّ ﷺ حينَ قال: «مَن حملَ علينَا السلاحَ فليسَ مِنَّا، ومَن غَشَّنَا فليسَ مِنَّا» (صحيح مسلم). فمَن كانت هذه صفتهُم يتحملونَ وزرَ تأخرِ الأمةِ وتخلفِ البلادِ، نشكوهُم إلى اللهِ تعالى، يقولُ عمرُ (رضي اللهُ عنه: “إلى اللهِ أشكُو ضَعْفَ الأمينِ وخيانةَ القويِّ”، أمَا يعلمُ هؤلاءِ جميعًا أنَّ اللهَ يراهُم، {أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ اللَّهَ يَرَىٰ} [العلق: 14 ]، ألم يعلمُوا أنَّ الرقيبَ عليهِم هو اللهُ تعالى؟!، } إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء: 1{.
ثالثـًا: نهضةُ الأوطانِ بالعملِ والإخلاصِ.
إنَّ مِن أشدِّ أسبابِ تأخرِنَا وإهدارِ الطاقاتِ والثرواتِ في بلادِنَا وجودُ نوعيةٍ مِن الموظفينَ أو مِن العاملينَ في المجالاتِ المختلفةِ لا يُبالونَ بمَا وقعُوا فيهِ مِن تقصيرٍ أو تأخرٍ أو غيابٍ، يخرجونَ أعمالَهُم قبلَ إنهاءِ ما كُلّفُوا بهِ مِن أعمالِ وأداءِ ما حُمَّلُوه مِن أمانةٍ، متناسينَ أنّ هذه الأعمالَ أمانةٌ سيُسألونَ عنها يومَ القيامةِ، {وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ} [الصافات: ٢٤].
إنَّ وطننَا الحبيبَ لن ينهضَ ويحققَ آمالَهُ إلّا بعدَ أنْ يزكيَ كلُّ عاملٍ قلبَهُ بالإخلاصِ وينقي لُبَّهُ بالإحسانِ، ويعلمَ أنّهُ لن تعلوَ عندهَا مرتبتهُ إلّا بحسنِ العملِ وجودةِ الإنتاجِ، وسلامةِ الصنعِ ونبلِ المقصدِ، وسيجدُ المجتمعُ عندَ ذلكَ في إتقانِ العملِ ما يوفرُ الجهدَ والمالَ والوقتَ وما يحفظُ الحقوقَ مِن الضياعِ والإهمالِ، وهنا تسعدُ البلادُ وتنعمُ بهذا الإتقانِ ويجني مِن ثمارِ عقولِ وسواعدِ أبنائِهَا ما يغنيهَا عن غيرِهَا ويحفظُ لها عزتهَا وكرامتهَا، أمّا حينَ يسودُ الإهمالُ ويستبدُ الكسلُ والخمولُ وينعدمُ الضميرُ فسيتجرعُ المجتمعُ مرارةَ ذلك، ويسهمُ ذلك في تخلفِ الأمةِ برمتِهَا.
إنَّ مِن أسبابِ تقدمِ غيرِنَا في الميادينِ المختلفةِ إتقانَ العملِ وإحسانَهُ وقيامَ كلِّ فردٍ بواجبهِ وما يناطُ بهِ مِن عملٍ على خيرِ وجهٍ.
فمَن أتقنَ وأحسنَ تقدّمَ وإنْ كان كافرًا، ومَن أساءَ وقصّرَ شقيَ وتأخرَ وإنْ كان مسلمًا، فإنَّ اللَّهَ يُقِيمُ الدَّوْلَةَ الْعَادِلَةَ وَإِنْ كَانَتْ كَافِرَةً، وَلَا يُقِيمُ الظَّالِمَةَ وَإِنْ كَانَتْ مُسْلِمَةً، فهذه سنةُ اللهِ في خلقِهِ، وقد قالَ اللهُ تعالى: {مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ} [هود: ١٥]، وفي نفسِ السورةِ يقولُ عزَّ وجلَّ: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ} [هود: ۱۱۷]، فاللهُ سبحانَهُ لا يخلفُ سننَهُ مع مَن يصلحونَ بهَا دنياهُم ولو كانوا أهلَ إشراكٍ، فإذا ما أدركَ المسلمُ أهميةَ الإتقانِ وضرورتَهُ ومَا يؤدِّي إليهِ مِن نتائجَ جيدةٍ، وإذا أدركَ كذلك عاقبةَ الإهمالِ والتقصيرِ وخطورتَهُ وما يؤدِّي إليهِ مِن عواقبَ وخيمةٍ دفعَهُ ذلك إلى الإتقانِ وإجادةِ ما يقومُ بهِ مِن أعمالٍ لينفعَ نفسَهُ ومجتمَعَهُ.
رابعـًا: تربيةُ جيلٍ جديدٍ علي العملِ والإتقانِ والإخلاصِ لنهضةِ الوطنِ.
ما أحوجنَا اليومَ إلى أنْ نربيَ أجيالاً على مراقبةِ اللهِ تعالى، فالمراقبةُ تكسبُ الأمةَ المسلمةَ الإخلاصَ في العملِ، كما أنّهَا تجردُ العملَ مِن مظاهرِ النفاقِ والرياءِ، فكثيرٌ مِن الناسِ يتقنُ عملَهُ ويجودُهُ إنْ كان مراقبًا مِن رئيسٍ لهُ، أو قصدَ بهِ تحقيقَ غاياتٍ له أو سعَى إلى السمعةِ والشهرةِ لأنّهُ يفتقدُ المراقبةَ الداخليةَ التي تجعلُهُ يؤدِّي عملَهُ بإتقانٍ في كلِّ الحالاتِ دونَ النظرِ إلى الاعتباراتِ التي اعتادَ بعضُهُم عليها. فأين نحن مِن مراقبةِ اللهِ تعالى؟! وأين نحن مِن الإحسانِ الذي ذكرَهُ النبيُّ ﷺ: «أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»، وقال ابنُ المباركِ لرجلٍ: “راقبْ اللهَ تعالى، فسألَهُ عن تفسيرِهِ فقال: كُن أبدًا كأنّكَ ترَى اللهَ عزَّ وجلَّ ” [إحياء علوم الدين]، ويقولُ أبو بكرٍ (رضي الله عنه): “إنَّ عليكَ مِن اللهِ عيونًا تراكَ، فالمسلمُ يستشعرُ دائمًا أنَّ اللهَ تعالى يراهُ ويطلعُ عليهِ فيتقنُ عملَهُ، إرضاءً للهِ تعالى بغضِّ النظرِ عمَّن يراهُ ويراقبُهُ مِن الخلقِ.
إنّ تَمَثُّلَ هذه المعاني الإيمانيةِ هو المخرجُ مِمّا يعانيهِ المجتمعُ، فإنّهُ مِن الصعبِ بل ربَّمَا كان مِن المستبعدِ أو المستحيلِ أنْ نجعلَ لكلِّ إنسانٍ حارسًا يحرسُهُ، أو مراقبًا يراقبُهُ، وحتى لو فعلنَا ذلكَ فالحارسُ قد يحتاجُ إلى مَن يحرسُهُ، والمراقبُ قد يحتاجُ إلى مَن يراقبُهُ، لكن مِن السهلِ أنْ تربيَ في كلِّ إنسانٍ ضميرًا حيًّا ينبضُ بالحقِ ويدفعُ إلى الخيرِ، لأنّهُ يراقبُ مَن لا تأخذُهُ سنةٌ ولا نومٌ.
- للمزيد : تابع العربي للعدل والمساواة، وللتواصل الاجتماعي تابعنا علي فسبوك وتويتر .